الدكتور سامر ابو رمان يكتب : .. من يرصد تنميتنا الاجتماعية ويضع مؤشرات تقدمنا ؟

‏كان موقفاً لا ينسى، أثناء مراقبة ملامح وجوه الحضور من قيادات العمل الخيري والاجتماعي، أثناء عرض المدير التنفيذي البريطاني -بجرأة- لشريحة نتائج الدولة المستضيفة للقاء في مؤشر التقدّم الاجتماعي، وهي مليئة باللون الأحمر للدلالة على سلبية النتائج، وتخلّف تقدّمها عن الأخرين في التقدم الاجتماعي!  وفي نفس اللقاء؛ يَعرضُ أخر شرائح نتائج تبين تقدم دولة الكيان الصهيوني الإسرائيلي في عدة مؤشرات اجتماعية واقتصادية وغيرها.

عادة ما تظهر الدول العربية والإسلامية بترتيب متخلّف ومتأخر في العديد من هذه المؤشرات، فهي ليست مستغربة لمن يتابع هذه التقارير والمراصد العالمية التي تبنى على احصاءات وبيانات منشورة أو استطلاعات رأي، أو تلك التي تفتخر بأنها تجمع عدة أدوات في بناء معلوماتها وبياناتها لاستخراج نتائجها وتقيميها.

هل  فعلاً نحن بهذا السوء والتخلّف كما تُظهرها هذه النتائج المعروضة بطرق ابداعية ومشوقة عابرة للقارات؟ وكيف نتعامل مع هذه النتائج ما بين تلقفها بحسن نية، ونشرها، والاعتماد عليها، والاحتجاج بها، أو سوء نية برفضها جملة وتفصيلاً ونقدها، واعتبارها من أدوات المؤامرة؟ هل هذه المؤشرات -حقاً -تنفّذ بطرق علمية كما يَظهر من سرعة انتشارها، ورعاية تنفيذها في واشنطن وغيرها من المدن الغربية؛ حتى لو كان بعضها بتمويل حكومات دولنا العربية؟

لا يمكن الجدل حول أهمية هذه المؤشرات، وبأننا نساهم في زيادة تأثيرها، فبعض الدِّراسات والتقارير، وربما القرارات العربية؛ أصبحت تعتمد على هذه الدراسات الغربية والمؤشرات المستوردة، وأحياناً لها ما يبررها، ‏فأذكر أثناء مراجعة تقرير عن الشباب العربي الذي استند بشكل أساسي على  بيانات استطلاعات الرأي التي تقوم بها جهات غربية، ‏انطلاقاً من أن هذا هو المتوفر بسهولة والمنشور الكترونياً وورقياً، فضلاً أنها تشمل عدة دول وبشكل دوري؛ مما يسهل المقارنة والتحليل، بل إن بعض الجهات المنفِّذة  أصبحت تدخل خدمة التحليل ضمن مواقعها الالكترونية، بحيث يستغنى الباحث عن برامج احصائية معقدة لفهم العلاقات والروابط!

اقتضت طبيعة عملي الاطلاع على بعض هذه المؤشرات، ورصد بدايات تأسيسها، وكيفية التعامل معها، واستخدام نتائجها، والاشراف على بعضها في منطقتنا العربية لصالح منظمات عالمية، والتفاعل مع بعضها، وقد كان في هذه التجارب العديد من الفوائد والملامح والاقتراحات المهمة، التي أشيرُ إلى بعضها -هنا- بمناسبة زيادة الاهتمام بها مؤخراً، ومحاولات جادة لتقديم نماذج في منطقتنا، ومنها تصور بين يدي -الآن- حول تأسيس المراصد الاجتماعية وبناء مؤشراتها.

‏        لا يخفى أن جُلَّ هذه المشاريع انطلقت -منذ عشرات العقود من البيئة الغربية-، وبَذل الأكاديميون جهوداً مضنية في محاولة قياس كلّ شيء وتغييره، ومقارنة كل شيء على مستوى المناطق والعالم، وبمظلة الحكومات والمؤسسات البحثية الكبرى وغيرها، وقد وضع بعضها خططاً لرصد ظواهر على المستوى الدولي وصلت مائة عام من الآن،  وأخرى ما زالت ترصد سلوك نفس العينات البشرية منذ عشرات السنيين.

على الرغم من محاولة فك النزعة العالمية وتأثير البيئة التي انطلقت منها هذه المؤشرات سيبقى أكبر تحدي أنها بنت البيئة التي انتجتها، والخبراء الذين أشرفوا عليها، وستبقى العولمة أبرز أغلفتها، وهو ما أدركته بعض الجهات التي سعت للحيادية؛ حيث وضعت نماذج قياس إقليمية داخل نفس المؤشرات،  انطلاقاً من أن ما لا يمكن السؤال عنه وقياسه في أوروبا؛ لا يعني عدم السؤال عنه في منطقة أخرى وبالعكس، ولذا اتاحت هذه الجهات المجال للتعديل أو حذف بعض الأسئلة من الاستمارة الأصلية، كما حدث – أثناء عملي ممثلاً لمنظمة المسح العالمية World Values Survey  بالتشاور مع الإدارة العامة للإحصاء في الكويت – في السؤال عن مدى اعتبار الشذوذ الجنسي مبرراً، ومقابل ذلك احتفظنا بالأسئلة  المرتبطة بالجوانب المالية مثل الاقتراض الذي لم يُسال عنه في أوروبا والولايات المتحدة؛ لأن ثقافة المجتمع ترفض هذا النمط من الأسئلة.

وكذلك فإن لنشر نتائج المؤشرات تأثيراً على المستوى المحلي والعالمي من عدة زوايا مثل: اتباع الآخرين لرأي الأغلبية فتصبح هذه النتائج في التأثير مثل كرة الثلج، وهذا يفسر كيف انقبلت النتائج من أغلبية ترفض الشذوذ قبل عشرات السنين في الولايات المتحدة إلى أغلبية تؤيده، حتى وصل الأمر لتشريعه بالمحكمة الدستورية العليا !! ولكن الأخطر من ذلك – هو ما يرتبط بموضوعنا بشكل مباشر- اعتبار نتيجة قبول الشذوذ الجنسي في بعض التقارير والمؤشرات من ملامح وأدلة تسامح وتقدم الشعوب في الكثير من المراصد، وتبريرها، وثم تسويقها، وهكذا في قبول المُلحد وغيرها !

وحتى لا تُترك هذه الساحة الهامّة فارغة، وتطبق بطرق ملتوية -ربما-؛ يجدرُ بالجهات الحكومية والأكاديمية في بلادنا توفير البديل لهذه المعلومات المتطايرة من هنا وهناك، وكما يمكن التنسيق مع الجهات الخارجية ذاتها، وعلى أقل الأحوال في حال نفَّذت هذه المؤشرات عدة جهات تصبح رادعاً لضبط جودة هذه البيانات من خلال مقارنة النتائج ومدى انسجامها مع بعضها؟ وهنا أذكُرُ كيف لجأت بعض الجهات إلى الاتصال من خارج السعودية لاستطلاع آراء السعوديين في بعض المسائل الحساسة، وكذا قامت جهة إسرائيلية في استطلاع آراء الإيرانيين عبر الهاتف!

إذا كانت الدول الفقيرة تضطر -مقابل تلقي الدعم من الدول والمؤسسات الخارجية-؛ لتنفيذ مثل هذه المؤشرات، حيث يعتبر التمويل الأجنبي أهم مصادر هذه المشاريع البحثية،  فليس هناك مبرراً للدول الغنية للتقاعس عن تنفيذ هذه المشاريع من ذاتها؛ بل وابتكار مشاريع خاصة بها وتنفيذها عالمياً، وعدم الانكفاء على الذات، وهو  لمسته في جامعة قطر، من خلال العمل معها على مشروع “مسح الهوية في دول مجلس التعاون الخليجي” حتى تقوي مشروعها لزيادة تأثير هذه المؤشرات ونشرها‏ عند الآخرين واستخدامها في التوثيق ‏والدراسات المعمقة.

على هذه الدول أن تحذر أن تكون أداة لتقوية مشاريع غيرها وبمالها، وكذلك عليها صناعة الصف الثاني -الرديف-، وضمان نقل المعرفة كحال بعض الدول التي تنفذ مثل هذه المشاريع على أرضها، ولا تجد في فريقها إلا القليل من أهل البلد، وهنا أستحضر تقييم زميلة احصائية تتعامل مع بيانات كل دول الخليج، وهي تصف كل دولة وطبيعة نقل المعرفة من خبراء أهل البلد أو الخبراء الخارجيين.

مع عدم  إنكار وإغفال الخبرات والتجارب والمنهجيات في العديد من هذه التقارير؛ إلا أن من السذاجة التسليم بكل ما يرد في نتائجها فضلاً عن تفسيرها، فعلى سبيل المثال من التقارير العالمية المهمة التي أنتظرها بلهفٍ -ويتابعها الكثير من المختصين- منذ  سنين، حيث في بداية كل عام تعلن نتائج تقييم مراكز الفكر والدراسات، ولا سيما نتائج المراكز العربية، وثم متابعة ردود الأفعال واحتفاليات مناقشة النتائج؛ كالذي أقامه مركز الجزيرة للدراسات بقطر الشهر الفائت لحصوله على المركز الخامس لعام 2015.

يصدر هذا المؤشر TTCSP GLOBAL GO TO THINK TANK INDEX عن جامعة بنسلفانيا، وكان من المستغرب أن يكون في نتائجه – منذ عدة سنوات أحد المراكز- “مركز الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية” Center of Strategic and Future Studies (CSFS) ) الذي تم إلغاؤه ‏منذ سنوات في جامعة الكويت، بل ويأخذ نسبة وترتيب على مستوى الدول العربية وصل للرقم 43 في عام 2015 !  وهو لم يعد موجوداً أصلاً !

وكحال البعض؛ نعتقد أن التقارير الأجنبية تنفذ بمهنية عالية، لا يجوز الاقتراب من انتقادها، ولذا كنت أدفع الشك كلما رأيت اسم هذا المركز من ضمن المراكز الأولى بالمنطقة العربية؛  حتى تأكدت من الزميل أ.د يعقوب الكندري أنه تم دمجه مع مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية منذ سنوات، ولم يعد هناك انتاج أو نشاطات أو اسم رسمي تحت هذا المسمى، وقد أبلغت المشرف على المؤشر   James G. McGannليتم تدراك الخطأ في التقرير القادم!َ

أحياناً قد يصبح دافع المشاركة في هذه المؤشرات لتحسين صورتنا وترتيبنا بالظاهر، دون الجوهر كما حدث في بعض الجامعات العربية ‏حينما استقطبت بعض كبار الباحثين والأكاديميين ‏بصورة شكلية،  لنشر أبحاثهم، ووضع اسم الجامعة باعتبارهم من منسوبي الجامعة؛ لرفع ترتيبها الأكاديمي بين الجامعات العالمية، وهو الأمر الذي سبب فضيحة لهذه الجامعة التي يُنظر إليها أنها الجامعة الأولى في بلدها، ولا سيما مع نشر بعض الأكاديميين الأجانب– بسخرية – لصيغة العقد المرسل لهم والمبالغ الطائلة والمُغريات المقدَّمة، مع ضمان عدم إلزامهم بزيارة الجامعة إلا مرات معدودة في العام !!

‏من الأهمية لنجاح الكثير من المؤشرات ‏‏وزيادة تأثيرها ونشرها؛ التنسيق مع الجهات الرسمية والحكومية قدر المستطاع، مع ضمان عدم التأثير على مصداقية النتائج،  وكما أن بعض المسؤولين يكون مدخل اقناعه بهذه المشاريع هو الاطلاع عن كثب لممارسات عالمية، كما حدَث لأحد الزملاء -الذي يسعى جاهداً لتطوير القطاع غير الربحي في السعودية ومحاولة المساهمة في التنمية مناضلاً على عدة جبهات رسمية وأكاديمية – حينما نسّقَ اجتماعات رسمية مع بعض الباحثين الأجانب لإقناع متخذ القرار بضرورة تبني هذه المؤشرات والمقاييس التي طال انتظار تنفذيها بأيدنا وتطويرها باحترافية واستخدمها في تنميتنا وقرارتنا .